الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الذخيرة في فروع المالكية ***
وقد كره مالك أن يقال: زرنا النبي عليه السلام، وأن يسمى زيارة، قال صاحب (تهذيب الطالب): لأن شأن الزائر الفضل والتفضيل على المزور، وهو صاحب الفضل والمنة، وكذلك أن يقال: طواف الزيارة، وقيل: لأن الزيارة تشعر بالإباحة، وزيارة النبي عليه السلام من السنة المتأكدة، ولو استؤجر رجل على الحج والزيارة فتعذرت عليه الزيارة، قال ابن أبي زيد: يرد من الأجرة بقدر مسافة الزيارة، وقيل: يرجع ثانية حتى يزور، وقال سند: يستحب لمن فرغ من حجه إتيان مسجده عليه السلام فيصلي فيه، ويسلم على النبي، وفي أبى داود قال عليه السلام: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله عز وجل علي روحي حتى أرد عليه السلام) ويروى عنه عليه السلام أنه قال: (من زار قبري وجبت له شفاعتي، ومن زار قبري وجبت له الجنة) ويروى عنه أنه قال: (من زارني بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي) وحكى العتبي أنه كان جالسا عند قبره عليه السلام فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) [النساء 64]، وقد جئتك مستغفرا من ذنبي، مستشفعا بك إلى ربي، ثم أنشأ يقول: يا خير من دفنت بالقاع أعظمة *** فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه *** فيه العفاف وفيه الجود والكرم ثم انصرف الأعرابي فحملتني عينى فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم فقال لي: يا عتبي: ألحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له. قال صاحب (المقدمات): أجمع أهل العلم على فضلهما على غيرهما، وعند عبد الوهاب وبعض المالكية: المدينة أفضل من مكة، وعند (ش) و(ح) وغيرهما: مكة أفضل، قال: وهو الأظهر. واعلم أن الأزمان والبقاع مستوية من حيث هي، أما الأزمان: فلأنها عند المتكلمين اقترانات الحوادات بعضها ببعض، ومفهوم الاقتران لا يختلف في ذاته، وأما البقاع: فلأن (الجواهر): مستوية، وإنما الله تعالى فضل بعضها على بعض بأمور خارجة عنها. قاعدة للتفضيل بين جملة المعلومات عشرون سببا: أحدها: بالذات كتفضيل الواجب على الممكن، والعلم على الجهل، وثانيها: بالصفة الحقيقية كتفضيل العالم على الجاهل، وثالثها: بطاعة الله تعالى كتفضيل المؤمن على الكافر، ورابعها: بكثرة الثواب الواقع في المفضل كتفضيل ليلة القدر، وخامسها: لشرف الموصوف كالكلام النفسي القديم على غيره من كلام المحدثين، وسادسها: لشرف الصدور كشرف ألفاظ القرآن لكون الرب تعالى هو المرتب لوصفه ونظامه، وسابعها: لشرف المدلول كتفضيل الأذكار الدالة على الله تعالى وصفاته العليا وأسمائه الحسنى وثامنها لشرف الدلالة كشرف الحروف الدالة على الأصوات الدالة على كلام الله تعالى، وتاسعها: بالتعليق كتفضيل العلم على الحياة، وإن كانتا صفتي كمال، وعشرها: شرف التعلق كتفضيل العلم المتعلق بذات الله تعالى وصفاته على غيره من العلوم، وكتفضيل الفقه على الطب لتعلقه بوسائله وأحكامه، وحادي عشرها: كثرة التعلق كتفضيل العلم على القدرة والإرادة؛ لتعلق العلم بالواجب والجائز والمستحيل، واختصاصها بالجائزات، وكتفضيل الإرادة على القدرة لتناولها الإعدام والإيجاد، واختصاص القدرة بالإيجاد، وتفضيل البصر على السمع لتعلقه بسائر الموجودات، واختصاص السمع بالأصوات والكلام النفساني. وثاني عشرها: بالمجاورة كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود فلا يمس إلا بوضوء، وثالث عشرها: بالحلول كتفضيل قبره على سائر البقاع، ورابع عشرها: بالإضافة كقوله تعالى: (أولئك حزب الله) [المجادلة 22] وخامس عشرها: بالانتساب كتفضيل ذريته على سائر الذراري، ونسائه على سائر النساء، وسادس عشرها: بالثمرة كتفضيل العالم على العابد لإثمار العلم صلاح الخلق بالتعليم والإرشاد، والعبادة قاصرة على محلها، وسابع عشرها: بأكثرية الثمرة كتفضيل الفقه على الهندسة، وثامن عشرها: بالتأثير كتفضيل الحياء على القحة لحثه على ترك القبائح، وكتفضيل الشجاعة على الجبن لحثه على درء العار، ونصرة الجار ونصرة الحق، وتحصيل المصالح ودرء المفاسد، وتاسع عشرها: بجودة البنية والتركيب كتفضيل الملائكة والجن على بني آدم في أبنيتهم، والعشرون: باختيار الرب تعالى كتفضيل أحد المتساويين من كل وجه على الآخر، كتفضيل شاة الزكاة على شاة التطوع، وحج الفرض على تطوعه، والقراءة والأذكار في الصلاة على مثلها خارج الصلاة، ولنقتصر على هذا القدر من الأسباب خشية الإكثار، ثم هذه الأسباب قد تتعارض فيكون الأفضل من حاز أكثرها وأفضلها، والتفضيل إنما يقع بين المجموعات، وقد يختص المفضول ببعض الصفات، ولا يقدح ذلك في التفضيل، كقوله عليه السلام (أقضاكم علي، وأقرأكم أبي، وأفرضكم زيد، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ من جبل) مع فضل الصديق على الجميع، وكاختصاص سليمان - عليه السلام - بالملك العظيم، ونوح - عليه السلام - بإنذار نحو ألف سنة وآدم - عليه السلام - بكونه أبا البشر مع تفضيله عليه السلام على الجميع، فلولا هذه القاعدة لزم التناقض. واعلم أن تفضيل الملائكة وا؛ لأنبياء عليهم السلام إنما هو بالطاعات، والأحوال السنيات وشرف الرسالات، وعظيم المثوبات، والدرجات العليات فمن كان فيها أتم فهو فيها أفضل إذا تقرر هذا، ففي (المقدمات): فضل المدينة من وجوه أحدها: قوله عليه السلام (المدينة خير من مكة) وهو نص في الباب، ويرد عليه أنه مطلق في المتعلق، فيحتمل أنها خير منها في سعة الرزق والمتاجر فما تعين محل النزاع، وثانيها: دعاؤه عليه السلام لها بمثل ما دعا به إبراهيم - عليه السلام - لمكة ومثله معه، ويرد عليه أنه مطلق في المدعو به فيحمل على ما صرح به في الحديث الآخر وهو الصاع والمد، وثالثها: قوله عليه السلام: (اللهم إنهم أخرجوني من أحب البقاع إلي، فأسكني أحب البقاع إليك) ويرد عليه أن السياق يأبى دخول مكة في المفضل عليه؛ لإياسه منها في ذلك الوقت، فيكون المعنى: فأسكني أحب البقاع إليك ما عداها مع أنه لم يصح، ولو صح فهو من مجاز وصف المكان بصفة ما يقع فيه، كما يقال: بلد طيب أي: هواؤها مع أنه لم يصح، والأرض المقدسة أي: قدس من دخلها من الأنبياء والأولياء المقدسين من الذنوب والخطايا، وكذلك الوادي المقدس أي: قدس موسى عليه السلام فيه والملائكة الحالون فيه، وكذلك وصفه عليه السلام التربة بالمحبة هو وصف لها بما جعله الله تعالى فيها مما يحبه الله ورسوله وهو إقامته، بها وإرشاد الخلق إلى الحق، وقد انقضى ذلك التبليغ وتلك القربات، ورابعها: قوله عليه السلام (لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة) ويرد عليه سؤالان: أحدهما أنه يدل على الفضل لا الأفضلية، وثانيهما أنه مطلق في الزمان فيحمل على زمانه عليه السلام، والكون معه لنصرة الدين، ويعضده خروج الصحابة بعده إلى الشام والعراق، وخامسها: قوله عليه السلام: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) أي: يأوي ويرد عليه أن ذلك عبارة عن انسياب المؤمنين لها بسبب وجوده فيها حال حياته فلا عموم له ولا بقاء لهذه الفضيلة لخروج الصحابة منها بعده، وسادسها: قوله عليه السلام: (إن المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد) ويرد عليه أنه محمول على زمانه كما تقدم. وسابعها: قوله عليه السلام: (ما بين قبري، ومنبري روضة من رياض الجنة) ويرد عليه أنه يدل على فضل ذلك الموضع لا المدينة، وثامنها: قال القاضي عياض: أجمعت الأمة على أن البقعة الحاوية لأعضائه أفضل البقاع، قال القاضي عبد الوهاب: لما استدل بهذه الأحاديث إذا ثبت ذلك فتكون الصلاة في مسجدها أفضل من الصلاة في المسجد الحرام، ويكون الاستثناء في قوله عليه السلام: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) معناه أنه أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بأقل مما فضل غيره، وعليه سؤالان أحدهما: لا يلزم من أفضلية البلد على تقدير تسليمها أفضلية الصلاة، وثانيها: أن في (التمهيد): قال عليه السلام: (صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف ومائة صلاة فيما سواه). واعلم أن تفضيل الأزمان والبقاع قسمان: دنيوي كتفضيل الربيع على غيره من الأزمان، وتفضيل بعض البلدان في الثمار والأنهار وطيب الهواء وموافقة الأهواء، وديني كتفضيل رمضان على الشهور، وعرفة وعاشوراء ونحوهما، ومعناه: كثرة جود الله تعالى فيها على عبادة، وكذلك الثلث الأخير من الليل؛ لجود الله تعالى بإجابة الدعوات، ومغفرة الزلات، واعطاء السؤال، ونيل الآمال، ومن هذا تفضيل مكة والمدينة، ولوجوه أخرى. وقد اختصت مكة بوجوه من التفضيل، أحدها: وجوب الحج والعمرة على الخلاف، والمدينة يندب إتيانها ولا يجب، وثانيها: فضلت المدينة بإقامته عليه السلام بها بعد النبوة عشر سنين، وبمكة ثلاث عشرة سنة بعد النبوة. وثالثها: فضلت المدينة بكثرة الطارئين من عباد الله الصالحين، وفضلت مكة بالطائفين من الأنبياء والمرسلين فما من نبي إلا حجها آدم فمن دونه، ولو كان لمالك داران فأوجب على عباده أن يأتوا إحداهما، ووعدهم على ذلك بغفر سيئاتهم، ورفع درجاتهم دون الأخرى، لعلم أنها عنده أفضل، ورابعها: أن التقبيل والاستلام نوع من الاحترام، وهما خاصان بالكعبة، وخامسها: وجوب استقبالها، وسادسها: تحريم استدبارها لقضاء الحاجة، وسابعها: تحريمها يوم خلق الله السماوات والأرض ولم تحرم المدينة إلا في زمانه عليه السلام، وثامنها: كونها مثوى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وتاسعها: كونها مولد سيد المرسلين، وعاشرها: لا تدخل إلا بإحرام، وحادي عشرها: قوله تعالى: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) [التوبة 28]. وثاني عشرها: الاغتسال لدخولها دون المدينة، وثالث عشرها: ثناء الله تبارك وتعالى على البيت وهو قوله عز وجل: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات) الآية [آل عمران 96]. وهو مأخوذ من الجهد الذي هو التعب ثم اشتهر في الشرع بنعت خاص، كما اتفق في الصلاة والصيام وغيرهما، وهو من العبادات العظيمة، ففي البخاري قال عليه السلام: (ما من عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا، وإن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد؛ لما يرى من فضل الشهادة. فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى، ولروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم أو موضع قيد - يعني سوطه - خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها) وقال عليه السلام: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار) فلهذه الفضيلة العظيمة يرجع اختيار مالك وأصحابه في جعله في المصنفات مع العبادات، والشافعية يجعلونه مع الجنايات؛ لأنه عقوبة على الكفر، فهم يلاحظون المفعول به، ونحن نلاحظ الفاعل، وتعلق الفعل بفاعله أشد من تعلقه بمفعوله. وفي (الكتاب): اثنا عشر بابا. وفي (التلقين): هو من فروض الكفايات لا يجوز تركه إلا لعذر، ولا يكف عنهم إلا أن يدخلوا في ديننا أو يؤدوا الجزية في بلدنا، قال المازري، قال ابن المسيب وغيره: هو فرض على الأعيان؛ لقوله تعالى: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين) [التوبة 36] وجوابه: أنه منسوخ بقوله تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) [التوبة 122] وقوله: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون) ثم قال: (وكلا وعد الله الحسنى) [النساء 95] ولو أنه على الأعيان لما وعد القاعد الحسنى، ولم تزل الأمة بعده ينفر بعض دون بعض، وقال سحنون: ليس بواجب بعد الفتح البتة إلا أن يأمر الإمام فيجب الامتثال لقوله عليه السلام: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا) فعلق الوجوب على الإستنفار وجوابه: أن تعليقه لا يتأتى وجوبه بدونه، بدليل منفصل وهو قوله تعالى: (قاتلوا المشركين) وغيره من النصوص، وقال الداودي: هو فرض على من يلي الكفار بعد الفتح دون غيره، قال: ويمكن حمل قول سحنون على من بعدت داره، وقول الداودي على أن الذي يليهم يقوم بهم ولا يظن أن أحدا يقول: لا يجب مع إفضاء تركه إلى استباحة دم المسلمين، ولكن مع الأمن قد يظن الخلاف، ويؤيد ما قلناه أن الكفر من المنكرات، وأقل المنكرات من فروض الكفاية فالكفر أولى بذلك، وإذا قلنا بفرضيته ففي سائر الفرق، واختلف في الحبشة والترك، فلمالك في الحبشة قولان، وقال ابن القاسم: يغزى الترك، ويروى عنه عليه السلام: (اتركوا الحبشة ما تركوكم واتركوا الترك ما تركوكم) فكان الرأي أن لا يهاجروا؛ لتوقع شرهم آخر الزمان من خروج الترك على الإسلام، ومنهم التتر، وذو السويقة من الحبشة هو الذي يهدم الكعبة. قال صاحب (المقدمات): إذا حميت أطراف البلاد، وسدت الثغور سقط فرض الجهاد عن جماعة المسلمين، وبقي نافلة إلا أن ينزل العدو ببعض بلاد المسلمين فيجب على الجميع إعانتهم بطاعة الإمام في النفير إليهم، وفي (الجواهر): قال عبد الوهاب: القيام بفرض الجهاد حراسة الثغور وعمارتها بالمنعة، ولا تجوز المهادنة إلا لضرورة تدعو إليها، وقال عبد الملك: يجب على الإمام إغزاء طائفة إلى العدو في كل سنة مرة تخرج معه، أو مع نائبه يدعوهم إلى الإسلام، ويكف آذاهم، ويظهر دين الله عليهم، ويقاتلهم حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية، ويعدل الإمام بين الناس في الخروج بالنوبة. وهي أربعة السبب الأول: وهو معتبر في أصل وجوبه، ويتجه أن يكون إزالة منكر الكفر فإنه أعظم المنكرات، ومن علم منكرا وقدر على إزالته وجب عليه إزالته، ويدل على هذا قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) [البقرة 193] والفتنة هي الكفر لقوله تعالى: (والفتنة أشد من القتل) [البقرة 121] ويرد عليه: لو كان سببا لا تنقض بالنسوان والرهبان والفلاحين والزمنى ونحوهم فإنا لا نقتلهم مع تحقق السبب، ويتجه أن يكون هو حراسة المسلمين وصون الدين عن استيلاء المبطلين، ويعضده أن من أمن شره من النسوان، ومن ذكر أن لا يقتل، وكذلك من أذعن بإعطاء الجزية، وهو الذي ينبني عليه قول ابن رشد وعبد الوهاب، ويرد عليه: أن ظواهر النصوص تقتضي ترتيب القتال على الكفر والشرك كقوله تعالى: (جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) [التوبة 73] و(قاتلوا المشركين كافة) [التوبة 36] وقوله عليه السلام: (قاتلوا من كفر بالله) وترتيب الحكم على الوصف يدل عليه ذلك الوصف لذلك الحكم وعدم عليه غيره، ثم القتال قد يجب مع تأثيم المقاتل كقتال الحربي، ومع عدم تأثيمه بل لدفع مفسدة افتراق الكلمة، كقتال علي - رضي الله عنه - من خالفه من الصحابة، أو لدفع مفسدة يعتقدها المقاتل بتأويله كقتال الصحابة له - رضي الله عنهم أجمعين - فهذا سبب فرضه على الكفاية. قاعدة: حكمة ما وجب على الأعيان أو على الكفاية: أن الأفعال على قسمين: منها ما تتكرر مصلحته الشرعية بتكرره فيجب على الأعيان، كالصلوات الخمس فإن مصلحتها تعظيم الرب تعالى وإجلاله والخشوع له والخضوع بين يديه، وهذا يتكرر تكرر الفعل، ومنها ما لا تتكرر مصلحته الشرعية بتكرره، كإنقاذ الغريق فإنه إذا سئل من البحر حصلت المصلحة فالنازل بعده لا يحصل مصلحة؛ لتعذر المصلحة بعد ذلك. سؤال: يشكل بالصلاة على الجنائز فإن مصلحتها إعفاء الميت من العقوبة بقبول الشفاعة، وهذا غير معلوم فينبغي أن يتكرر، وأن يجب على الأعيان جوابه: أن المطلوب من العباد إنما هو فعل صورة الشفاعة وهذا علم حصوله، وأما المغفرة فأمر مغيب سقط اعتباره في حقنا وأقيمت مظنته مقامه كالرضا في البيع هو الأصل، ولما كان خفيا أقيمت الصيغ والأفعال مقامه، والغي اعتباره حتى لو رضي بانتقال ملكه من غير قول ولا فعل لم ينتقل الملك. فائدة: الكفاية والأعيان كما يتصوران في الواجبات يتصوران في المندوبات كالوتر والفجر، وقيام الليل على الأعيان، والأذان والإقامة على الكفاية. السبب الثاني: وهو معتبر في تعيينه، وفي (الجواهر): يتعين بتعيين الإمام فمن عينه تعين امتثالا للطاعة. السبب الثالث: وهو معتبر في تعيينه مفاجأة العدو، ومن يقدر على دفعه ففي (الجواهر): إن لم يستقلوا بدفعه وجب على من يقرب مساعدتهم، فإن لم يستقل الجميع وجب على من علم بضعفهم، وطمع في إدراكهم ومعاونتهم المصير إليهم. السبب الرابع: قال اللخمي: استنقاذ الأسرى لقوله تعالى: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها) [النساء 75] يريد تعالى من في مكة من الأسرى والعجزى، فإن عجزوا عن القتال وجب عليهم الفداء بأموالهم إن كان لهم مال، فإن اجتمع القدرة والمال وجب أحد الأمرين، قال صاحب (البيان): يجب على الإمام فك الأسرى من بيت مال المسلمين فما نقص عن بيت المال تعين في أموال جميع المسلمين على مقاديرها، ويجب على الأسير الغني فداء نفسه بماله، وأكثر العلماء على أن من فدى أسيرا بغير أمره وله مال يرجع عليه، وقال ابن سيرين وغيره: لا يرجع لقوله عليه السلام: (فكوا العاني) وجوابه من وجهين: أحدهما أن فكه أعم من كونه مجانا، وثانيهما أنه محمول على من ليس له مال، ومن له مال لا يفك من بيت المال إلا أن يكون كالجائزة له، ومن فدى فقيرا فالصحيح عدم الإتباع لتعين ذلك على الإمام والمسلمين، وظاهر الروايات خلافه وهو بعيد، قال ابن يونس، قال في (العتبية): يرجع على المفدي، وإن كان أضعاف قيمته وهو مقدم على دين المفدى كالقوت وفداء ماله من اللصوص ودابته من ملتقطها والكراء على متاعه، فذلك كله يقدم على الغرماء، قال محمد: وهذا في ماله الذي أحرزه العدو معه؛ لأنه فدى ذلك، قال عبد الملك: إنما قدم على الغرماء؛ لأنه يدخل في ذمته كرها وهو أقوى، ولو اشتراه من المغنم بسهمه فلا شيء له عند مالك، والقول قول المفدى من دار الحرب؛ لأنه فداه بيسير أو بغير شيء مع يمينه، قال ابن القاسم: إذا نودي على الحر في المغنم لم يرجع عليه مشتريه، وإن كان ساكتا عمدا من غير عذر إن تفرق الجيش لعدم من يرجع عليه، وقيل: يرجع على الجاهل الظان أن ذلك يرقه، قال ابن القاسم: والحر يمكن نفسه ممن يبيعه ويتبع، وقال غيره: لا يتبع وإن كان عالما، قال ابن حبيب: إذا فدى أحد الزوجين صاحبه فلا رجوع إلا أن يفديه بأمره أو غير عالم به، قال ابن القاسم: وكذلك إن فدى قريبه عارفا به؛ لأنها قرينة تدل على التبرع كان ممن يعتق عليه أم لا، إلا أن يكون بأمره كان يعتق عليه أم لا، وغير عالم به رجع إن كان لا يعتق عليه وإلا فلا، قال سحنون: من اشترى ذوي رحمه أو فداه رجع على من يرجع عليه بثواب الهبة إن كان عالما وإلا رجع مطلقا، وكذلك في الأبوين والولد؛ لأنه لا يملك بالفداء، ولا يفسح نكاح الزوجة إذا فداها زوجها، قال ابن حبيب: ولو قالت لزوجها افدني ولك كذا أو مهري فليس إلا ما ودي، قال ابن القاسم: إن وفت له الفداء سقط المهر، وقال مالك: لا شيء له من المهر إلا أن يعلم أنها امرأته، وقال أشهب: إن طلب العدو الفداء بالخيل والسلاح دفع بخلاف الخمر، ومن فدى بخمر ونحوه لا يرجع به على المفدى ولا بقيمته، ومن فدى أسارى بألف رجع على الموسر والمعسر بالسوية، إلا أن يكون العدو علم الموسر وتشاح فيه، وكذلك يستوي الأحرار والعبيد، ويخير السيد بين الإسلام والفداء، قال المازري: وإن اختلف الفادي والْمَفْدِيُّ فالقول قول الْمَفْدِيِّ في إنكاره أصل الفداء ومقداره، ولو ادعى ما لا يشبه لتمكنه من إنكار أصله، وقيل: القول قول الفادي إن وافقه الْمَفْدِيُّ على أصل الفداء، ويقدم على الغرماء فيما معه ببلاد الحرب، وعند عبد الملك فيما ببلد الإسلام، وسوى بينهما محمد، وفي (الكتاب): إذا قال كنت قادرا على التحيل والخروج بغير شيء، وظهر صدقه لم يتبع إن افتداه بغير علمه، وإن قال كنت أُفدى بدون هذا، وتبين صدقه سقط الزائد ومتى كان عالما بافتدائه ولم ينكر اتبعه، كان قادرا على الخروج بغير شيء أو بدون ذلك؛ لأنه رضي بذلك. فروع ستة: الأول في (الكتاب): قال يحيى بن سعيد: إذا اؤتمن الأسير على شيء وفّى أمانته، وله أخذ ما لم يؤتمن عليه، قال ابن يونس، قال ابن القاسم: ولا يخمس ما يهرب به؛ لأنه لم يوجف عليه، وإن كان خرج إلى دار الحرب فأسر خمس؛ لأنه لم يحصل إلا بالإيجاف، ولا يجوز له وطء الجارية حتى يستقر ملكه بدخوله إلى دار الإسلام، وإن كانت لا تخمس، ولا يعاملهم بالربا، قال الأشهب: إذا دفعوا إليه ثوبا ليخطه فلا يخون فيه؛ لأنه اؤتمن عليه، قال محمد: إذا خان أو رابى ثم تخلص تصدق بقدر ما رابى وخان؛ لتعذر وصوله إلى ربه، ولا شيء عليه في السرقة، قال ابن القاسم: يقام عليه الحد في الزنا سواء زنى بحرة أو بمملوكة خلافا لعبد الملك. الثاني في (الكتاب): إذا فدى ذمية لا يجوز له وطؤها، وله عليها فداؤها، وترجع ذمية على حالها. الثالث: في (الجواهر): إذا ولدت الأسيرة المسلمة عندهم ثم غنمناها: فالصغار بمنزلتها، والكبار إذا بلغوا وقاتلوا فيء، وقال في ثمانية ابن أبي زيد: الولد تبع في الحرية والإسلام، ومن امتنع منه بعد بلوغه فهو مرتد، وقال أشهب: حملها وولدها الكبير فيء تغليبا لحكم الدار ولو كانت أمه، قال ابن القاسم: كبير ولدها وصغيرهم لسيدها، وقال عبد الملك: الكبير والصغير فيء نظرا للدار، وشبهة ملك الكفار بالجور، وقال أشهب: هم فيء إلا أن تكون تزوجت فلسيدها لوجود أبوة معتبرة تستتبع، وأما الذمية فقال الشيخ أبو إسحاق: هي مردودة إلى دينها، وصغار ولدها: المطيق للقتال منهم فيء. الرابع: قال المازري: إذا اشترى من بلاد الحرب سلعا تتملك فلصاحبها أخذها بالثمن، والموهوب بغير عوض، وإن اشترى من الحربي ببلدنا: ففي (الكتاب): لا يأخذه، وقال محمد: يأخذه بالثمن. الخامس: قال ابن القاسم: إذا كان مع الأسير امرأته أو أمته جاز وطؤهما إن تيقن سلامتهما من وطء العدو، وأكرهه لبقاء ذريته بأرض الحرب، وترك الأمة أحب إلي؛ لأن الحربي أن أسلم علها كانت ملكا له، قال بعض الأصحاب: أما الحرة فكما قال، وأما الأمة: فعلى قول من يقول له أخذ ماله بعد القسم بغير ثمن، وإن الكفار لا شبهة لهم يجوز وطؤها، ويحرم على القول بأنهم يملكون، وأنه لا يأخذ بعد القسم، ويكره على المشهور. السادس: في (الجلاب): إذا خرج الأسير إلينا وترك ماله في أيديهم ثم غزا مع المسلمين فغنموا ماله فهو أحق به قبل القسم بغير ثمن، وبعد القسم بالثمن. وفي (المقدمات): هي ستة: الإسلام فإن الله تعالى لم يأت بخطاب يتناول غير المسلمين، وبهذا يظهر الفرق بين الجهاد والصوم والزكاة وغيرهما، والبلوغ، والعقل، والحرية؛ لأن حقوق السادات فرض عين فيقدم على فرض الكفاية، وقياسا على الحج، والذكورة لضعف أبنية النسوان عن مكافحة الأقران، ولاحتياجهن إلى كشف العورات، والاستطاعة بالبدن والمال، وفي (الجواهر): القدرة بسلامة الأعضاء، والقدرة على السلاح، ووقع للشافعية تردد في القتال بالحجارة، واختاروا عدم اعتباره وهو ظاهر نقل (الجواهر): والركوب عند الحاجة إليه، ونفقات الذهاب والإياب، فإن صدم العدو الإسلام وجب على العبد والمرأة؛ لتعين المدافعة عن النفس والبضع. وهي اثنان: الأول في (الجواهر): الدين الحال دون المؤجل، فإن كان يحل في غيبته وكل من يقبضه، وإن كان معسرا بالحال فله السفر بغير إذنه. المانع الثاني: في (الجواهر): الولادة فللوالدين المنع دون الجد والجدة، وسوى بينهم (ح)، والأب الكافر كالمسلم في منع الأسفار والأخطار إلا في الجهاد؛ لأن منعه ربما كان لشرعه لا لطبعه، وقيل يستويان، وقاله (ح) لقوله تعالى: (وصاحبهما في الدنيا معروفا) [لقمان 15]، ومن المراد المشركان، لقوله تعالى: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما) [لقمان 15] إلا أن يعلم أن قصده وهن الدين، وليس من الموانع: خوف اللصوص في الطريق؛ لأن قتالهم أهم من الكفار. والنظر في المقاتل، وكيفية القتال، فهذه ثلاثة فصول: وهو من اجتمعت له الشروط والأسباب، وانتفت عنه الموانع، فحينئذ يجب عليه القتال. وهم ثلاث فرق: الحربيون والخوارج والمحاربون، وتؤخر الثالثة إلى كتاب الجنايات، الفرقة الأولى الحربيون، وقد تقدم الخلاف في الحبشة والترك، وههنا تفريعان: الأول: في (الكتاب): لا يقتل النساء، ولا الصبيان، ولا المشايخ الكبار، ولا الرهبان في الصوامع والديارات، ويترك لهم من أموالهم ما يعيشون به، ونهى عليه السلام عن قتل العسيف وهو الأجير، وفي مسلم: (نهى عليه السلام عن قتال النساء والصبيان) وفي النسائي: (لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا) وفي (الموطأ): قال الصديق - رضي الله عنه - ليزيد بن سفيان: إنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا إنهم حبسوا أنفسهم له، وستجد قوما فحصوا عن أوساط رءوسهم من الشعر فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف، وإن موصيك بعشرة: لا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبير هرما، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تحرقن عامرا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلا، ولا تغرقنه، ولا تغلل، ولا تخن، وقال (ش): يقتل الشيوخ والرهبان في أحد قوليه؛ لقوله عليه السلام: (اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم) يعني شبابهم، ولاندارجهم في عموميات النصوص، والجواب عن الأول: أنه محمول على ذي الرأي، ويخصص منه من لا رأي له بالقياس عن النساء، وهو الجواب عن الثاني، ووافقنا (ح) وفي (الجواهر): إذا شك في البلوغ كشف عن المؤتزر يعتبر نبات عانته، وقيل: لا يقبل حتى يحتلم ولا يقتل الشيخ إلا أن يكون ذا رأي، ولا الراهب إلا أن يكون ذا رأي، وقيل: يقتل مطلقا، وعلى المشهور ففي الراهبات قولان: تركهن قياسا على الرجال، ويوسرن لاختصاص معنى الترهب بالرجال، وحكاه المازري عن مالك، ولا يقتل المعتوه ولا الأعمى ولا الزمن، إلا أن يخشى رأيهما، وقيل: لا يقتلان مطلقا، ولا يقتل المسلم أباه المشرك إلا أن يضطره إلى ذلك بأن يعاجله على نفسه، وقاله (ش) لنهيه عليه السلام حذيفة عن قتل أبيه عقبة، والصديق - رضي الله عنه - عن قتل أبيه، فإن قتل ما منع من قتله من امرأة أو صبي أو شيخ بعدما صار مغنما فعليه قيمته تجعل في المغنم، أو في دار الحرب فليستغفر الله تعالى ولا شيء عليه، قال المازري: ظاهر المذهب أن إغزاء المرأة بالصياح لا يبيح قتلها، ولا حراستها العدو، وقال ابن حبيب: يقتل رهبان الكنائس؛ لخلطتهم لأهل الحرب وعدم أماننا من ضررهم، وهو معنى قول الصديق - رضي الله عنه - في المحلقين أوساط رءوسهم، واسمهم الشمامسة، وإذا قاتلنا من منعنا من قتله قاتلناه وقتلناه، فإن رمت المرأة بالحجارة، قال في كتاب ابن حبيب: لا يبيح ذلك قتالهم إلا أن تكون قتلت بما رمت، وقال سحنون: تقاتل بما قتلت به، وأما أموال الرهبان والمسائح فما ظهر أنه لغيرهم أخذ، وما تحقق أنه لهم ففي ظاهر المذهب ما يشير إلى المنع من أخذه، وإن كان كثيرا قياسا على النفس، وما يشير إلى أخذه؛ لأن الأصل أخذ المال والنفس، قال سحنون: وإذ مر الجيش بعبيد الرهبان وزرعهم لا يمسهم قال: فإن أراد أن ذلك يسير للقوت فهو متفق عليه، وأما العبيد فإن كانوا ممن يقاتلون أو تقاتلوا جاز قتالهم وقتلهم، إلا أن يكونوا ممن لا يتشاغل الرهبان إلا بهم، واعتزلوا أهل ملتهم، قال صاحب (البيان): أما إذا علم أن الأموال لهم فلا تؤخذ، وإن كثرت رواه ابن نافع عن مالك، وقال سحنون: لا يترك لهم إلا ما يستر العورة ويعيش به الأيام، وكذلك الشيخ وهو نحو قول مالك في المدونة، وقال في العتبية البقرتان تكفيان الرجل، وقال المازري: والمجنون الذي يفيق أحيانا يباح قتله، ولا يقتل الصناع عندنا؛ لأن اشتغالهم بصنائعهم يمنعهم عنا كاشتغال الرهبان بالتعبد، وخالف سحنون في هذا الأصل، وأباح قتل الحراس، وقال: لم يثبت النهي عن قتل العسيف، وفرق بأن الصانع معين لأهل دينه بصنيعته بخلاف الراهب وهو متجه على قول ابن حبيب في قتل رهبان الكنائس بطريق الأولى، قال اللخمي: قال مالك: لا يقتل الصناع ولا الفلاحون، وروي النهي عن قتل الأكارين وهم الفلاحون، وقال سحنون: يقتل الفلاح. الثاني في (الكتاب): من وجد بساحلنا من العدو، وقالوا: نحن تجار ونحوه فلا يقتلون، وليسوا لمن وجدهم، ويرى فيهم الإمام رأيه، وأنا أراهم فيئا للمسلمين، وإذا قال تاجرهم: ظننت أنكم لا تعرضون للتجار، أو يؤخذ ببلاد العدو مقبلا إلينا فيقول: جئت أطلب الأمان فهو مشكل، ويرد إلى مأمنه، وإذا لفظهم البحر فزعموا أنهم تجار ولا يعلم صدقهم، ومعهم السلاح رأى فيهم الإمام رأيه، ولا يخمسون، إنما الخمس فيها أوجف عليه، قال يحيى: ولا يقبل قول من أدعى أنه رسول، وقال ربيعة: إن كان شأنه التجارة عندنا فهو كأمان، وإلا فلا عهد ولا ذمة، قال صاحب (البيان): قال ابن القاسم: يجتهد في الجاسوس، ورأى أن تضرب عنقه ولا نعلم له توبة، قال وما قاله صحيح، ويتخير الإمام بين قتله وصلبه لسعيه في الأرض بالفساد دون النفي والقطع لبقاء الفساد معهما، وفي (الصحيح) أن حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى مكة يخبرهم بمقدمه عليه السلام قال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنقه يا رسول الله، فلم ينكر عليه ذلك، بل أخبره أنه من أهل بدر، قال المازري: إذا كان الجاسوس مسلما فقيل: يقتل، واختلف في قبول توبته، وقيل: إن ظن به الجهل وكان منه المرة نكل، وإن كان معتادا قتل، وقيل: يجلد جادا منكلا ويطال سجنه بمكان بعيد من المشركين، قال مالك: يجتهد الإمام فيه كالمحارب، قال صاحب (البيان): وإذا ادعى الحربيون أنهم أتوا يسلمون فثلاثة أقوال: لا يقبل قولهم في السلام ولا التجارة ولا الفداء، ويرى فيهم الإمام رأيه في القتل والاسترقاق، وسواء كانت عادتهم التكرر لبلاد المسلمين، أم لا أخذوا في بلاد الإسلام أو قبلها الأشهب، ويقبل قولهم ويردون إلى مأمنهم إلا أن يتبين كذبهم إن أخذوا إلى بلاد الإسلام، أما في بلاد الإسلام فهم فيء. ليحي بن سعيد، وهو ظاهر قول مالك في (الكتاب): وإن أخذوا في بلاد المسلمين، والثالث: إن كان شأنهم التكرر إلينا قبل قولهم، أو ردو إلى مأمنهم، وإلا فهم للمسلمين، وروي عن مالك أما إن أظهروا ذلك قبل وصولهم إلينا فلا خلاف أنهم لا يسترقون، ويقبل قولهم. الفرقة الثانية: الخوارج، والخارجون علينا من ملتنا قسمان، لطلب الملك وهم عصاة الثورة، ولنصرة مذاهبهم بالتأويل، وفي (الكتاب): يستتاب أهل الأهواء من القدرية وغيرهم، فإن تابوا وإلا قتلوا إن كان الإمام عدلا، وإذا خرجوا على إمام عدل ودعوا لمذهبهم دعاهم للسنة فأن أبوا قاتلهم علي رضي الله عنه، وما كفرهم ولا سباهم ولا أخذ أموالهم، قال التونسي: ويتوارثون عن الفقهاء لقوله عليه السلام في الصحيح: (يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، ويقرءون القرآن ولا يتجاوز حناجرهم يمرق أحدهم من الدين، كما يمرق السهم من الرمية تنظر في النصل فلا ترى شيئا، وتنظر في السهم ولا ترى شيئا، وتنظر في القدح فلا ترى شيئا ويتمارى في الفوق، وقد سبق الفرث والدم) فقوله يتمارى في الفوق: يقتضي وقوع الخلاف في كفرهم وأن لهم نصيبا من الدين مشكوكا فيه، ويكوون قتلهم على هذا حدا كالرجم. فوائد يروي ضئضئ وضيضي هذا هو الأصل والمعدن: والذي يلف على طرف السهم والنصل: والفوق: طرف السهم الذي يجعل فيه الوتر. قال: واختلف في تكفيرهم، وعلى القول بالتكفير لا يتوارثون، وعدم التفكير ظاهر مذهب الفقهاء، وقيل: يضربون ويسجنون ولا يقتلون إلا أن يدعوا إلى بدعتهم فيقاتلون، ولا تستباح نسائهم ولا أموالهم، وفي (الكتاب): إذا تاب الخوارج بعد إصابة الدماء والأموال سقطت الدماء وما استهلكوه من الأموال؛ لأنهم متأولون بخلاف المحاربين، ويؤخذ من وجه بعينه، ولا حد على مرأة سبيت ولا يلاعنها زوجها ويحد قذفها، وترد إلى زوجها الأول بعد عدة الآخر، قال ابن يونس، قال سحنون: لهم حكم المسلمين في أمهات الأولاد وعدد الأولاد والمدبرين والوصاية، ولا يتبعون بما نالوا من الفروج، وما لا يعرف به من الأموال وقف فإن أيس منه تصدق به، قال ابن يونس: إذا سبى الخارجي امرأة فأولدها ألحق به والده كمستحقة من المشركين، وفيه الخلاف الذي ثمة، وإذا كان الخوارج يطلبون الوالي الظالم لم يجز الدفع عنه، ولا يجب على الناس قتل القدرية والباغية إلا مع الولاة. وفيه سبعة أبحاث، لقوله تعالى: (بلغ ما أنزل إليك من ربك) [المائدة 67]، وفي (الكتاب): لا نقاتل ولا نثبت قبل الدعوة إلى الله تعالى، قال ابن القاسم: وكذلك إذا أتوا إلى بلادنا، قال مالك: ومن قربت داره فلا يدع وتطلب غرته، ومن بعد ذلك فالدعوة قطع للشك، قال يحيى بن سعيد: يجوز ابتغاء غرة العدو ليلا ونهارا؛ لبلوغ دعوة الإسلام أقطار الأرض إلا من ترجى إجابته من أهل الحصون فيدعى، قال مالك: وأما القبط فلابد من دعوتهم بخلاف الروم، واختلف في العلة فقيل: لبعد فهمهم، وقيل: لشرفهم وبسبب مارية وهاجر، لقوله عليه السلام: (استوصوا بالقبط خيرا فإن لهم نسبا وصهرا) قال المزاري: ضابط المذهب أن من لا يعلم ما يقاتل عليه وما يدعي إليه، ويدعي، ومن علم ففيه أقوال: الدعوة على الإطلاق، وهذا أحد قوليه في (الكتاب) وإسقاطها مطلقا، رواه ابن سحنون عنه، والتفرقة بين من يعلم وبين من لا يعلم، وهو أحد قوليه في (الكتاب)، والرابع يدعو الجيش الكثرة لأمنه العائلة دون غيره، وهو عندي ظاهر كلامه، وأما إن عاجلنا العدو فلا يدعى، ولو أمكنت الدعوة وعلمنا أن العدو لا يعلم أيقاتل عن الملك أو الدين؟ دعي، ولا يحسن الخلاف في هذا القسم، قال اللخمي: لا خلاف في وجوب الدعوة قبل القتال لمن لم يبلغه أمر الإسلام، ومن بلغه فأربعة أقسام واجبة من الجيش العظيم إذا غلب على الظن الإجابة على الجزية؛ لأنهم قد لا يعلمون قبول ذلك منهم، ومستحب إذا كانوا عالمين ولا يغلب على الظن إجابتهم، ومباحة إذا لم يرج قبولهم، وممنوعة إن خشي أحدهم لحذرهم بسببها. واختلف في التبييت فكرهه مالك، وأجازه محمد لقضية كعب بن الأشرف، وهو ثلاثة أقسام: من وجبت دعوته لا يجوز تبييته، ومن تستحب دعوته يكره تبييته، ومن أبيحت أبيح إلا أن يخشى اختلاط المسلمين بالليل وغذ توجه القتال لا يعملون بالحرب بل المكر والخديعة، ومعتمد هذه الأقوال: اختلاف الآثار وظاهر القرآن ففي مسلم عن ابن عون: أنه كتب إلى نافع يسأله عن الدعاء قبل القتال فكتب إليه: إنما كان ذلك أول الإسلام قد أغار عليه السلام على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسعى على الماء، فقتل مقاتليهم وسبى سبيهم. وفيه: كان عليه السلام يغير إذا طلع الفجر، وكان إذا سمع أذانا أمسك وإلا أغار. قال أبو الطاهر: في وجوب الدعوة روايات. ثالثها: وجوبها لمن بعدت عليه داره، وخيف من عدم علمه بالمقصود، ورابعها: الجيوش الكبار. واختلف المتأخرون فيها على ثلاث طرق: أحدها المذهب كله على قول واحد، وتنزيلها على الأحوال، وثانيها تبقيتها على حالها، وثالثها أن المذهب على ثلاث روايات الوجوب، والسقوط، والتفرقة بين قريب الدار وغيرها. وفي (الجواهر): صفة الدعوة أن يعرض عليهم الإسلام، فإن أجابوا كف عنهم، وإلا عوضت لهم الجزية فإن أبوا قوتلوا، وإن أجابوا طلبوا بالانتقال إلى حيث ينالهم سلطاننا، فإن أجابوا كف عنهم، وإن أبوا قوتلوا، قال المازري: وحيث قلنا بالدعوة فقتلوا قبلها واستبيح مالهم فلا دية ولا كفارة، وقتالهم كقتل المرتد قبل الاستتابة والنساء والصبيان، وقال (ش): تجب الدية كالذمي والمعاهد، وجوابه: الفرق بالعهد المانع، وههنا لا عهد، والدعوة مختلف فيها، وقال بعض البغداديين: لو أن المقتول تمسك بكتابه وآمن بنبينا ونبيه على جنب ما اقتضاه كتابه ففيه دية مسلم. في (الكتاب): لا بأس بالجهاد مع ولاة الجور؛ لأنه لو ترك لأضر بالمسلمين، واستدل البخاري على ذلك بقوله عليه السلام: (الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) ولأنا إن استطعنا إزالة منكرهم أطعنا طاعتين بالجهاد وإزالة المنكرين، وإلا سقط عنا وجوب الإنكار فنطيع بالجهاد، قال اللخمي: وروي عن مالك لا يجب الخروج معهم؛ لئلا يعينهم على ما يقصدونه من الدماء، قال اللخمي: لا أرى أن يغزوا معهم إذا لم يوفوا بالعهد، وهو أشد من تعديهم في الخمس وبشرب الخمور وأنواع الفسق، وإنما تكلم مالك في وقت أكثر مجاهديه أهل الخير بتأخرهم يضعف الناس. في (الكتاب): لا بأس بإخراج الأهل إلى السواحل، ولا يدرب بهن إلى أرض الحرب ولا العسكر العظيم، لما في البخاري: (كنا نخرج معه عليه السلام فنسقي القوم ونخدمهم ونسقي الجرحى ونداوي الكلمى) قال اللخمي: وفي مسلم: (نهيه عليه السلام عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله يد العدو) وقاله مالك والأئمة فيكره ذلك، وإن كان الجيش عظيما خوف سقوطه أو نسيانه، وإن لم يكن مستظهر الحرام، وقال (ح): يجوز في الجيوش العظيمة، قال صاحب (الإكمال): ولم يفرق مالك بين الحالين، وحكي ذلك عن سحنون وقدماء أصحابه، وأجاز الفقهاء الكتابة إليهم بالآية ونحوها دعوة إلى الإسلام؛ لأنه كتب إليهم: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) [آل عمران 64] الآية، واختلف في تعليمهم شيئا منه فمنعه مالك صونا عن الاستخفاف، وأجازه (ح) لتوقع الإرشاد، وعند (ش) قولان، وإن طلبوا مصحفا لينظروا فيه لم يمكنوا فقد كره مالك وغيره معاملتهم بالدنانير عليها اسم الله تعالى، ولم تحدث سكة الإسلام إلا في زمن عبد الملك بن مروان، ويروى في زمن عمر رضي الله عنه. والأصل فيه الأحرار المسلمون البالغون، ويجوز بالعبيد بإذن السادة، وبالمراهقين الأقوياء، ولا يجوز بالمشركين خلافا ل (ح) لنا: ما في مسلم: (خرج عليه السلام قبل بدر، فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جولة ونجدة، ففرح أصحابه عليه السلام حين رأوه، فلما أدركه قال الرجل له عليه السلام: جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال له عليه السلام: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع فلن استعين بمشرك، ثم مضى حتى أدركنا بالشجرة، أدركه الرجل، وقال له كما قال أول مرة، فقال له صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة قال: لا فقال: فارجع فلن نستعين بمشرك، ثم رجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أول مرة: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم فقال له عليه السلام: فانطلق) فقال ابن حبيب: هذا في الصف والزحف، أما في الهدم والمنجنيق ونحوه فلا بأس، وقال أيضا: لا بأس أن يقوم بمن سالمه على من حاربه؛ لأنه عليه السلام استعان بأهل الكتاب على عبدة الأوثان، والجواب عن الحدث السابق: أنه عليه السلام تفرس فيه الإسلام إذ منعه. يروى أن من أول من دون الدواوين في الإسلام عمر - رضي الله عنه - وفي (الكتاب): لا بأس بكتابة الرجل اسمه في ديوان مصر أو الشام أو غيرهما فإن تنازع رجلان في اسم مكتوب في العطاء فأعطى أحدهما الآخر مالا ليترك له ذلك الاسم، قال ابن القاسم: لا يجوز لقول مالك لا يجوز بيع الزيادة في العطاء بعرض، ولأن المعطي إن كان صاحب الاسم فقد أخذ الآخر حراما، وإن كان غيره فقد باع ما لم يعلم، قال ابن يونس: إذا لم يعلم ذلك تحالفا واقتسماه إن رآه الإمام، ولو كان المتنازع فيه الخروج وليس عطاء ثابتا أخرج الإمام أيهما شاء وأعطاه ذلك، ومراده في (الكتاب) الأعطية الثانية، وفي (الكتاب): وقد وقف عمر - رضي الله عنه - والصحابة بعده الفيء وخراج الأرضيين للمجاهدين، وفرضوا منه للمقاتلة والعيال والذراري فهو سنة لمن بعدهم، فمن افترض فيه ونيته الجهاد جاز، قال ابن جرير: أصحاب العطاء أفضل من المتطوعة لما يرعون، وقال مكحول: روعات البعوث تنفي رواعات يوم القيامة، قال اللخمي: المستحب أن لا يأخذ أجرا ويغزو لله تعالى خالصا، فإن أخذ من الديوان جاز إذا كانت جهة تجوز، وإذا أراد رجلان أن يتطاويا وهما من ما حوزين فيرجع كل واحد منهما إلى ما حوز صاحبه، جاز إذا أراد ذلك عرفاؤهم، وفي (التنبيهات): الطوا بفتح الطاء والواو مقصور والماحوز بالحاء المهملة والراء المعجمة، وفي (النكت) الماحوز: الموضع الذي يرابط فيه نحو الإسكندرية والمنستير، والطوا: المبادلة فإذا كتب الإمام بعضهم للخروج إلى جهة وبعضهم إلى جهة، أخبر فيجوز أن يخرج هذا لثغر هذا، وهذا لثغر هذا، وفي (الكتاب): يجوز جعل القاعد للخارج من أهل ديوانه؛ لأن عليهم سد الثغور خلافا (ش) و(ح)؛ لأنه قد مضى الناس على ذلك، وربما خرج لهم العطاء، وربما لم يخرج ولا يجعل لغير من في ديوانه ليغرو عنه، وقد كره إجازة فرسه لمن يغزو عليه، فإجارة النفس أشد كراهة. قاعدة: العوضان لا يجتمعان لشخص واحد، ولذلك منعنا الإجازة على الصلاة ونحوها لحصولها للمصلي مع عوضها، وحكمة المعارضة انتفاع كل واحد من المتعارضين بما يبذل له، والجهاد حاصل للمجاهد، ومقتضى ذلك المنع مطلقا، وعليه اعتمد (ش) و(ح) وراعى مالك العمل، قال يحيى بن سعيد: لا بأس في الطوا أن يقول لصاحبه: خذ بعثي وآخذ بعثك وأزيدك وكذا، وكذا وكرهه شريح قبل الكتبة. أما بعدها فهو جائز إلا لمن انتصب ينتقل من ماحوز إلى ماحوز يريد الزيادة في الجعل، قال ابن يونس: أما إذا لم يتقدم كتبه قلم يجد عليهما خروج فلا فائدة في الإعطاء، قال التونسي: إذا سمي الإمام رجلا فلا يجعل لغيره الخروج عنه إلا بإذن الإمام، وإذا قال: يخرج من البعث الفلاني مائة وأعطى بعضهم لبعض جاز، ولو قال: يخرج جملة بعث الصيف فجعل بعضهم لمن بعثه في الربيع لم يجز إلا بأذى الإمام؛ لأنه قد عين، وهذا جائز إلا لمن أوقف نفسه يلتمس الربح متى وجده خرج فمكروه، وأما إذا قال: خذ بعثي وآخذ بعثك قبل وقت الخروج فهو الدين بالدين، قال ابن عمر رضي الله عنهما: من أجمع على الغزو فلا بأس بأخذه ما يعطى، وقال مالك: لا بأس بالكراء في الغزو إلى القفول من بلد العدو وتوسعة على الناس؛ لأن غزوهم معروف. في (الكتاب): لا بأس بتحريق قراهم وحصونهم وتغريقها بالماء، وإخرابها وقطع شجرها المثمر، وقاله (ش)، وقال الأئمة: يجاز قطع النخل ونحوه، لما في مسلم أنه عليه السلام حرق نخل بني النضير. ويحمل قول الصديق - رضي الله عنه - على ما يرجى انتفاع المسلمين به، وإذا كان مسلم في حصن أو مركب لا يحرق ولا يغرق لقوله تعالى: (لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما) [الفتح 25] ولا يعجبني ذلك إذا كان فيهم ذرية المشركين ونساؤهم، وإذا خرق العدو سفينة المسلمين جاز خروجهم إلى البحر فرارا من الموت إلى الموت، ولم يره ربيعة إذا طمع في النجاة أو الأسر، وقال ربيعة أيضا: الصبر أفضل، ولا يلقي الرجل نفسه بسلاحه ليغرق بل يثبت لأمر الله تعالى، وفي (الجواهر): يجوز إرسال الماء عليهم وقطعه عنهم لقوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) [الأنفال 60] وفي النار خلاف ما لم يكن عندهم أسارى المسلمين فلا يجوز، ولو ترسوا بالنساء والصبيان تركناهم إلا أن يخاف على المسلمين، فإن ترسوا بمسلم تركوا، وإن خفنا على أنفسنا؛ لأن دم المسلم لا يباح بالخوف، فإن ترسوا في الصف ولو تركوا لانهزم المسلمون وخيف استئصال قاعدة الإسلام أو جمهور المسلمين وأهل القوة منهم، وجب الدفع وسقط مراعاة الترس، ولا يجوز حمل رءوس الكفار من بلد إلى بلد ولا إلى الولاة، وقد كرهه الصديق - رضي الله عنه - وقال: هذا فعل العجم، قال صاحب (البيان): ترمى الحصون بالمنجنيق، وإن كان فيهم نساء وصبيان فقد رمي أهل الطائف بالمنجنيق، فقيل له: يا رسول الله، إن فيهم النساء والصبيان، فقال عليه السلام: هم من آبائهم) وإذا لم يكن بالحصن إلا المقاتلة: أجاز في (الكتاب) رميها بالنار، وروي عنه المنع، وإذا كان معهم النساء والصبيان فأربعة أقوال: يجوز المنجنيق دون التغريق والتحريق، وهو مذهب (الكتاب)، ويجوز جميع ذلك عند أصبغ، ومنع جميع ذلك مروي عن ابن القاسم، ويجوز التغريق والمنجنيق دون التحريق عند ابن حبيب، فإن كان معهم أسارى للمسلمين امتنع التحريق والتغريق، قال ابن القاسم: يجوز المنجنيق وقطع الماء عنهم، وروي منع ذلك عن مالك وأصحابه المصريين والمدنيين، وأما السفن إن لم يكن فيها أسارى المسلمين جاز التحريق، والفرق بينها وبين الحصون أنهم إذا لم يحرقوهم فعلوا بهم ذلك، وهو متعذر عليهم في الحصون، فإن كان فيهم الأسارى فمنع ابن القاسم، وجوز أشهب وإن كان فيهم النسوان والصبيان جاز قولا واحد، والمدرك في هذه الأحكام قوله تعالى: (يخربون بيوتهم بأيدهم وأيدي المؤمنين) [الحشر 2] وقوله تعالى: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين) [الحشر 5] وقال عليه السلام: (لا يعذب بالنار إلا رب النار) ووافقنا (ح) في قتل الحيوان الذي يضعف قواهم كالخيل والبغال، قال المازري، وقال ابن وهب و(ش): لا يجوز إتلاف الخيل والبغل لعدم المأكلة، ويجوز إتلاف فرس الفارس تحته بلا خلاف فنقيس عليه وعلى الشجر، ويفرق الخصم بأن مركوبه آلة للشر بخلاف غيره، والنبات ليس له حرمة في نفسه بخلاف الحيوان فنقيس على النساء والصبيان، وعلى المذهب اختار بعض الأصحاب الذبح لبعده عن التمثيل، ونهى بعض الأصحاب عنه ليبعده عن الأكل ويمكن أن تجوق لبعد ذلك عن الأمتعة، وخير في بعض الروايات بين الذبح والتعرقب، وأما النحل فنهي عن إتلافه لا مكان تطيره إلى بلد الإسلام وغيرها كحمام الأبرجة بخلاف المواشي والدواب، فإن كانت كثيرة تقويهم فروايتان: إحداهما المنع لما روي فيما تقدم، والجواز كالدواب وأما الحيوان الناطق إن عجز عن وصوله لبلدنا ترك النساء والصبيان وقتلت الرجال، إلا أن يكونوا أسقطنا حكم القتل عنهم، وإذا تركنا الوالدان والنسوان والشيوخ في بلد الحرب فهم لمن أخذهم أو في حوزة الإسلام، فقال ابن حبيب: لا يملكون، وذلك كالعتق لهم. قال ابن يونس: قال ابن حبيب: اختلف في قوله تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) [الأنفال 66] قيل: التخفيف في العدد فلا يفر العدو من مثيله، وإن كان أشد منهم سلاحا وجلدا إلا أن يكون بأرض الحرب بموقع مددهم فله التولية سعة، وقيل: ذلك إنما هو في القوة دون العدد، وهي رواية عبد الملك عن مالك وقوله قول ابن حبيب، قال: وهذا القول محمول على قول محمد: إن الانحياز إلى والي جيشه الأعظم وتنحاز السرية المتقدمة إلى من خلفها مما يليها، وإذا نشأ القتال وكان السلطان ضعيفا فله الانحياز أكثر من ثلاثة صفوف، وإن علموا أنهم يقتلون فالانصراف أحب إلي إن قدروا، وإلا تلازموا حتى يقتلوا، وإذا حصرت المدينة فضعفوا، قال ربيعة: يخرجوا للقتال أحب إلي من الموت جوعا، وإن طمعوا في النجاة وإلا فالصبر أحسن، قال التونسي: لهم الخروج إلى القتال لعله أروح لهم، وقد اختلف في المركب تلقى عليها النار هل يلقى الرجل بنفسه ليغرق أم لا؟ قال ابن حبيب ومحمد: لا تجوز المبارزة بين الصفين إذا صحت النية إلا بأذن الإمام، قال: ولا بأس أن يعضد إذا خيف عليه، وقيل: لا يعضد؛ لأنه لم يف بالشرط وليس بجيد؛ لأنه إذا أخذ وجب فداؤه بالقتال وغيره، قال صاحب (البيان): إذا حمل الرجل الواحد على الجيش العظيم أراد السمعة فحرام إجماعا، أو خوف الأسر لإحاطة العدو به فجاز إجماعا، أو ليلقي الرعب في قلوب الكفار، والقوة في قلوب المسلمين فكرهه عمرو بن العاص - رضي الله عنه - لأنه ألقى نفسه إلى التهلكة، ومنهم من استحسنه وهو الصحيح، وما زال السلف على ذلك وفي كلام مالك إشارة إلى القولين، وفي (المقدمات) قال ابن القاسم: لا تجوز شهادة الفار من الزحف وإن فر إمامه، وإن بلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا لا يجوز التولي، وإن كان العدو زائدا على الضعف؛ لقوله عليه السلام: (لن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة) فهذا الحديث مخصص للآية عند أكثر العلماء، وقيل: أن قوله تعالى: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) [آل عمران 111]خاص ببدر، والصحيح تعميمه إلى الأبد. فرعان: الأول في (الجلاب): تقام الحدود في أرض العدو، وقاله (ش)، وقال (ح): كل ما يوجب الحد لا يوجبه إلا مع الإمام نفسه؛ لأن ذلك ينفر القلوب، ويفرق الكلمة، ويوجب الدخول لدار الحرب والردة، وجوابه: أن أدلة الوجوب قائمة فتجب؛ لأنه من أعظم الطاعات فيكون من أقوى أسباب المعاونات، وفي (اللباب): إن زنا الأسير بحربية ثم خلص قال ابن القاسم: عليه الحد خلافا لعبد الملك. الثاني: قال إمام الحرمين من الشافعية: إذا تيقن المسلمون أنهم لا يؤثرون شيئا البتة، وأنهم يقتلون من غير نكاية العدو ولا أثر أصلا وجبت الهزيمة من غير خلاف بين العلماء، وهو متجه، وعلى هذا يمكن انقسام الفرار إلى الواجب والمحرم والمندوب والمكروه بحسب الإمارات الدالة على المصالح وتعارضها ورجحانها. وفيه خمسة فصول: قال اللخمي: أموال الكفار خمسة أنواع: أحدها لله خالصا وهو الجزية والخراج وعشر أهل الذمة وأهل الصلح يفعل الإمام في ذلك ما يراه مصلحة، وثانيها: لمن أخذه ولا خمس فيه وهو ما أخذ من بلد الحرب من غير إيجاف قال محمد: إن هرب بتجارته لم تخمس إن أسر ببلد الإسلام، وإن خرج إلى دار الحرب فأسر خمست؛ لأنه خرج لذلك أو الجهاد، ولو خرج تاجرا فسرق جارية أو متاعا لمن يخمس، قال مالك: وما طرحه العدو خوف الغرق فوجد ليس معه أحد منهم ولا بقرب قراهم، ولا يخمس إلا أن يكون ذهبا أو فضة فيجرى على حكم الركاز، وإن كان بقرب قراهم خمس إلا أن يكون يسيرا، وإن كان بقرب الحربيين فهو كالحربيين أمره إلى الإمام، وثالثها: خمسه لله تعالى وبقيته لواجده، وهي الغنيمة والركاز، ورابعها: مختلف فيه هل بخمس أم لا؟ وهو ما جلا عنه أهله، وله ثلاثة أحوال: أن ينجلوا بعد نزول الجيش قيل: فيء لا شيء فيه للجيش لعدم القتال وقيل: يخمس؛ لأن الجلاء بالخوف من الجيش، وإن انجلوا قبل خروج الجيش خوفا منه ففيء. يختلف في خراج أرضهم وما صلحوا عليه قبل خروج الجيش لمكاتبة أو رسل فهو فيء، وإن كان بعد نزول المشركين لهم كان على القولين؛ لأنه بإيجافهم، والثالث: ما يؤدونه كل عام وهو كالخراج، وخامسها: ما غنمه العبيد بإيجفاف من أرض الإسلام ولا حر معهم، قيل: هو لهم ولا يخمس، وقيل: يخمس كالأحرار نظرا إلى قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه) [الأنفال 41] هل يندرج العبيد في الخطاب أم لا؟ وكذلك إن كانوا مع المشركين وبهم قدرة على الغنيمة يختلف في انصبائهم، ويختلف فيما غنمه النساء والصبيان دون الرجال هل يخمس أم لا؟ والمأخوذ من الغنيمة سبعة أقسام: الأموال، والرجال، والنساء، والصبيان والأرضون، والأطعمة، والأشربة. فالأموال تخمس للآية المتقدمة، والرجال يخير الإمام فيهم بين خمسة أشياء: القتل، والمن، والفداء، والجزية، والاسترقاق يفعل الأصلح من ذلك بالمن والفداء، ومن ضربت عليه الجزية من الخمس على القول بملك الغنيمة بمجرد الأخذ، والقتل من رأس المال، والاسترقاق راجع إلى جملة الغانمين، وإذا أسقط القتل امتنع القتال ويتخير في الأربعة، وإن من عليه لم يجز له حبسه عن بلده إلا أن يشترط عليه البقاء لضرب الجزية، وإن أبقاه للجزية الاسترقاق دون المفاداة برضاه، وإن استرقهم جاز أن ينتقل معه إلى الجزية والمن والفداء، وإن أبقاه للفداء امتنعت الحرية والرق إلا برضاه، قال ابن الحاجب: وله المفاداة بالمال والأسرى، ولا فرق في التخيير بين أسرى العجم والعرب والأحرار والفلاحون يخير فيهم فيما عدا القتل على الخلاف في قتلهم، وفي النساء والصبيان في ثلاثة: المن والفداء والاسترقاق، ووافقنا (ش) في التخيير بين الخمس لما فيه من الجمع بين الأدلة، ففي الكتاب العزيز: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) [التوبة 5] و(حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) [التوبة 29]، (فإما منا بعد وإما فداء) [محمد 4] وهو خير من اعتقاد النسخ، وقال (ح): لا يجوز المن والفداء، وقال بعض العلماء: يقتلون على الإطلاق، لقوله تعالى: (فإما من بعد وإما فداء)، قال صاحب (البيان): وحكى الداودي أن أكثر أصحاب مالك يكرهون الفداء بالمال ويقولون: إنما كان ذلك ببدر؛ لأنه علم أنه سيظهر عليهم، قال: وإذا قلنا بالتخيير: فإن كان الأسير عظيم النجدة قتله أو عظيم القيمة استرقه أو فداه إن بذل فيه أكثر من قيمته أو عديم القيمة والقدرة على الجزية كالزمن اعتقه أو عديم القيمة دون القدرة على الجزية ضربها عليه، واختلف قول مالك إن التبس أمره فقال: مرة لا يقتله، وقال مرة: يقتل لقول عمر رضي الله عنه: لا تحملوا إلينا من هؤلاء الأعلاج أحدا جرت عليه المواسي. فائدة: العلج من الأعلاج والمعالجة وهي المحاولة للشيء، فإن العلج هو القوي القادر على محاولة الحرب. وفي (الكتاب): يسترق العرب إذا سبوا كالعجم، وفي (الجواهر): لا يمنع الاسترقاق كون المرأة حاملا من مسلم، لكن لا يرق الولد إلا أن تكون حملت به حال كفر ثم سبيت بعد الإسلام، وإذا سبي الزوجان معا أو الزوج أولا انقطع النكاح بينهما عند أشهب خلافا لابن المواز، وإذا سبيت هي أولا انقطع، وقال محمد: إن استبرئت بحيضة فوطئها السيد قبل إسلام زوجها انقطع، وإلا فلا، وإذا سبيت وولدها الصغير لم يفرق بينهما في البيع والقسمة، والصغير لم يثغر، وروي: من لم يحتلم، ولو قطع عن الأم بيع مع الجدة لم يجز، ويجوز التفرقة بينه وبين الأب والجدة. (فرع). في (البيان): يجوز شراء الحربيين من آبائهم إذا لم تكن بيننا وبينهم هدنة، وارتهانهم وبيعهم فيما رهنوا، والعبد الأسير لا يجوز له بيع ولده؛ لأنه لا حكم له على ولده ز (فرع) قال المازري: إذا من على بلد فتحت عنوة وأقروا فيها فهم أحرار، والمشهور أن أرضها وقف، وأما أموالهم: فينتفعون بها حياتهم، فإن أسلموا أو ماتوا فثلاثة أقوال: تكون لهم وتورث عنهم التالد والطارف؛ لأنهم ملكوا، وقيل: لا يكون لهم التالد ولا الطارف نظرا إلى أنه ترك لهم مدة الحياة أو الكفر، والأصل استحقاق المسلمين له، وقيل: التالد ليس لهم؛ لأنه من الغنائم ولهم الطارف؛ لأنه من كسبهم بعد المن. ثم نرجع إلى بقية أقسام اللخمي، قال: الأرضون على ثلاثة أقسام: بعيد عن قهرنا فنخرب بهدم أو بحرق، وتحت قهرنا غير أنه لا تسكن فيقطعه الإمام لمن فيه نجده، ولا حق للجيش فيه، وقريب مرغوب فيه فهل يوقف خراجه للمسلمين أو تجوز القسمة، والوقف قولان لمالك، وقد قسم عليه السلام قريظة وفدك وخيبر. وقال عمر رضي الله عنه: لولا من يأتي من المسلمين لم ندع قرية فتحت عنوة إلا قسمتها، وفتحت مكة عنوة ولم تقسم، واختلف هل تركت منى لأهلها فيجوز لهم بيعها أو فيئا للمسلمين؟ وروي عنه عليه السلام: (مكة حرام لا تحل إجارة بيوتها ولا بيع رباعها) وكانت كذلك على عهده عليه السلام والخلفاء بعده، قال (صاحب البيان): قال مالك: فتحت فدك عنوة بغير قتال على النصف له عليه السلام والنصف لهم، ولم يكن للمسلمين شيء، ولم يكن فيها تخميس لعدم القتال والإيجاف، وكذلك خيبر، ولذلك قطع عليه السلام لأزواجه منهما، وكان هذا عنوة لمجرد الرعب الذي أعطيه عليه السلام، ومنه فتح بني النضير وبني قعيقعان، وفتحت مصر سنة عشرون عنوة، وقال الليث: صلحا، وقيل: صلحا ثم نقضوا العهد ففتحت عنوة، وفي (الكتاب): أرض العنوة يجتهد فيها، وأرض الصلح لا تقسم وأهلها على ما صولحوا عليه، قال ابن القاسم: وخراج الجماجم تبع للأرض عنوة أو صلحا، وقال أيضا: هي فيء، قال ابن يونس، قال محمد: يقر أهل العنوة أحرارا، ويكتفي منهم بما يوجد من خراج جماجمهم، قال عيسى: ترك الأرض بأيديهم عون لهم كما فعله عمر - رضي الله عنه - قال محمد: ونساؤهم كالحرائر في النظر إليهن والدية كدية الذمية، وإذا لم يقدر على الأرض لبعدها بيع أصلها. (فرع) قال صاحب (البيان): إذا أتت الإمام هدية في أرض العدو قال مالك: هي لجملة المشركين إلا أن يكون ذلك من قرابة أو مكافأة، ولم يفرق بين أن تكون من الطاغية أو من بعض الروم، وفيه تفصيل: أما من الطاغية فلا تكون له، قال مالك: وتكون غنيمة تخمس، وقيل: فيء المسلمين لا خمس فيه، وأما إن كانت من بعض الروم فروى أشهب أنها له إذا كان الحربي لا يخاف منه، فإن أهدي الأمير من الطاغية أو من غيره من العدو وقبل دخوله بلد الحرب فحكى الداودي: أنها له، والمشهور أنها لجميع المسلمين وأن الأمير بخلافه فيما قبله من قيصر والمقوقس وغيرهما؛ لأن الله تعالى خصه بما فتح عليه من أموال الحرب بالرعب بآية سورة الحشر. (فرع) قال ابن القاسم: الكلب المأذون في اتخاذه يدخل في المقاسم مراعاة لقول من يجيز بيعه، ولاندراجه في عموم آية الغنيمة، وقال مالك: لا يدخل وهو القياس لنهيه عن ثمن الكلب. وفي (الكتاب): يجوز أخذ الطعام من الغنيمة والعلف والغنم والبقر للأكل، والجلود للنعال والخفاف، والحوائج بغير إذن الإمام، وقال الأئمة، لما في مسلم عن عبد الله ابن جعفر، قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر فالتزمته وقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا فالتفت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبتسما. ووصى الصديق - رضي الله عنه - يزيد بن أبي سفيان: لا تذبحن شاة إلا لمأكلة، قال ابن يونس، قال ابن القاسم: وإذا ضم الإمام ما كثر فضل عن ذلك ثم احتاج الناس إليه أكلوا من بغير أمره، وفي (الكتاب): يؤخذ السلاح يقاتل به ثم يرده. وكذلك الدابة ويركبها إلى بلده إن احتاج إليها ثم يردها إلى الغنيمة، فإن قسمت الغنيمة باعها وتصدق بثمنها، وكذلك كل ما يحتاج إلى لبسه من الثياب، وروي عن ابن وهب: لا ينتفع بسلاح ولا دابة ولا ثوب، ولو جاز ذلك لجاز أخذ العين يشتري به، وما فضل من الطعام بعد رجوعه إلى بلده، قال ابن القاسم وسالم: يأكله ويكره بيعه، وقال مالك: يأكل القليل ويتصدق بالكثير، وكل ما أذن في النفع به ببيع رجع ثمنه مغنما يخمس. (تمهيد): الأصل المنع من الانتفاع بمال الغنيمة لا بعد القسمة لحصول الاشتراك في السبب، لكن الحاجة تدعو المجاهدين لتناول الأطعمة لعدم الأسواق بدار الحرب، وهو ضرورة عامة، والضرورة إلى الدواب خاصة فتارة لاحظ مطلق الضرورة فعمم، وتارة راعي الحاجة الماسة فخص، وأما النقدان: فهما وسيلتان للمقاصد، وليس مقصودين فلا جرم امتنعا مطلقا، قال: وإذا أخذ هذا لحما وهذا عسلا فلأحدهما منع صاحبه حتى يقايضه، قال ابن يونس كره بعضهم التفاضل بين القمح والشعير في هذا، وخففه آخرون، وفي (الكتاب): من نحت سرجا أو برى سهما ببلد العدو فهو له ولا يخمس، وإن كان يسيرا وما كسب من صيد طير أو حيتان أو صنعه عبده من الفخار فهو له، وإن كثر، قال ابن يونس: قيل إن كان للسرج قدر أخذه أجره ما عمل والباقي فيء، وإذا باع صيدا صار ثمنه فيئا، وقال ابن حبيب: كل ما صنعه بيده إنما له الأجرة، وما صاده من البزاة ونحوها مما يعظم خطره فمغنم بخلاف الحيتان؛ لأن هذه الأمور إنما وصل إليها في أرض الحرب بالمشركين، وفي (الجواهر): يجوز ذبح الأنعام للأكل، ويقول: لا يجوز إذا ذبحت للانتفاع بجلدها إن احتيج إليه، وإلا رده إلى المغانم، ويباح للأكل لمن معه طعام، ولمن ليس معه بقدر الحاجة، وإن فضل شيء بعد تفرق المشركين تصدق به إن كان كثيرا وإلا انتفع به. قال المازري: هو من الغلل، وهو الماء الجاري بين الشجر، والغال يدخل ما يأخذه بين متاعه فقيل له: غال، ويقال: غل يغل ويغل في (الموطأ) قال عليه السلام: (أدوا الخائط والمخيط، فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة) والخائط: الخيط والمخيط: الإبرة، والشنار: العيب فعندنا، وعند (ح) و(ش): يؤدب ولا يحرق رحله خلافا لقوم، وفي أبي داود أنه عليه السلام وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه. وهو ضعيف، قال صاحب (البيان): الإبرة ونحوها عند ملك ليست غلولا إذا أخذها لقضاء حاجته، وليس عليه ردها في المغانم، وقوله عليه السلام (أدوا الخائط والمخيط) مبالغة في التحذير، قال ابن القاسم: وإذا جاء الغال تائبا لم يؤدب، ومنعناه إذا تاب قبل القسم ورد ما غله للمغانم، قال مالك: ولو أدب كان حسنا، ولو تاب بعد افتراق المشركين أدب عند الجميع، قال مالك: يتصدق به إن افترق المشركين، واختلف في مثل الدواء من الشجر والمسن والرخام فقيل: يمنع أخذه إذا كان له ثمن، وقيل: يجوز؛ لأنه لم يملكه العدو، وفرق مالك بين ما تنبته الأرض فيجوز، وبين غيره فلا يجوز؛ لأنه لم يوصل لتلك المواضع إلا بالمشركين، وما لا ثمن له يؤخذ قولا واحدا، وإذا اشترى الجارية من الغانم ثم وجد معها حليا إن كان نحو القرطين فلا بأس، وإن كان كثيرا مما لا يشبه أن يكون من هيئتها فلا أراه له، وإذا اشترى الشيء المحفوظ في أرض الحرب بالثمن اليسير ثم وجد فيه حليا من الذهب أرجو أن لا يكون به بأس لتعذر رده للجيش، وقد حصل له بوجه جائز ليس بغلول فهو كاللقطة بعد التعريف واليأس من صاحبها. (فرع) قال: إذا علم عدم أداء الخمس قال مالك: لا يشتري، ، وقال أبو مصعب: يشتري وتوطأ الأمة، والخمس على المشتري، فإن شك فيه فالورع عدم الشراء، وهذا الاختلاف إنما ينبغي إذا كان الرقيق لا ينقسم أجناسا؛ لأن الواجب إن باع ليخمس ثمنه إماما ينقسم أجناسا فهو كمن باع سلعة غيره تعديا فلا يجوز لمن علم ذلك شراؤها. وفي (التنبيهات): النفل بفتح الهاء وسكونها: هو الزيادة عن السهم، ومنه نوافل الصلاة، وفي (الكتاب): لم يبلغني أن السلب للقاتل كان إلا يوم حنين، وهو لاجتهاد الإمام، وقاله (ح)، وقال (ش) وابن حنبل: السلب للقاتل؛ لقوله عليه السلام في مسلم: (من قتل قتيلا له عليه بينه فله سلبه) وقضى عليه السلام بالسلب في قضية عوف وعروة وغيرهما. (قاعدة): تصرفه يقع تارة بالإمامة؛ لأنه الإمام الأعظم، وبالقضاء؛ لأنه القاضي الأحكم، وبالفتيا؛ لأنه المفتي الأعلم فمن تصرفه ما يتعين لأحدها إجماعا، ومنه ما يتنازع الناس فيه كقوله عليه السلام: (من أحيى أرضا ميتة فهي له) فقال (ح): ذلك من تصرف الإمامة فيتوقف الإحياء على إذن الإمام، وقلنا نحن بالفتيا فإن غالب أمره تبليغ الرسالة فكذلك ههنا، وكذلك قوله عليه السلام لهند امرأة أبي سفيان لما اشتكت إليه تعذر وصولها إلى حقها: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) فاختلف الناس هل إذا ظفر الإنسان بجنس حقه أو بغير جنسه المتعذر هل يأخذه أم لا؟ قال (ش): هذا تصرف منه بطريق الفتيا، فلا يحتاج إلى إذن الإمام، فطرد أصله في الموضعين، وخالفنا نحن أصلنا، وكذلك (ح) لظاهر قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه) [الأنفال 41] وهو مقطوع به متواتر، والحديث خبر واحد وليس أخص من الآية حتى يخصصها لتناوله الغنيمة وغيرها وضعا، فكلاهما أعم وأخص من وجه، ويؤكد ذلك ترك أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ذلك في خلافتهما، ولأن الحديث يستلزم فساد نيات المجاهدين وهم أحوج إلى الإخلاص من الدنيا وما فيها، وفي (الكتاب): أكره قول الإمام: قاتلوا ولكم كذا، ومن فعل كذا فله كذا. ويكره للأسير أن يقاتل مع الروم عدوهم على أن يخرجوه إلى بلاد الإسلام، ولا يحل له أن يسفك دمه على مثل هذا، قال ابن يونس، قال مالك: لا يجوز النفل قبل الغنيمة وهو من الخمس، قال سحنون: وإذا قال ذلك الإمام قبل القتال مضى، ولو قال: من قتل هذا منكم فله سلبه فقتله الأمير لم يكن له سلبه لإخراجه نفسه بقوله منكم، ولو قال: إن قتلت قتيلا فلي سلبه فلا شيء له فيمن قتل، ولو قال: من قتل قتيلا فله سلبه فقتل قتيلين فعندنا يخيره أو يعطيه سلب الأول خاصة، وعندنا له الأول خاصة فإن الشرط اقتضى العموم في القاتلين والمقتولين دون القتلات فإن جهل الأول فقيل: نصفهما، وقيل: أقلهما، قال محمد: فإن قتلهما معا فقيل له: سلبهما، وقيل: أكثرهما، والفرق: أن الشرط إنما تحقق بهما فليس أحدهما أولى من الآخر بخلاف الأول، ولا يدخل في العموم سلب من لا يجوز قتله كالمرأة ونحوها إلا أن تقاتل، وإذا، قال الإمام ذلك بعد القتال فلا شيء للذمي ولا للمرأة إلا أن يعلم به الإمام، خلافا لأهل الشام في الذمي، وأشهب يرى الإرضاخ للذمي، وقياس قوله له السلب، وسوى بين من سمع، ومن لم يسمع في الشرط. قال سحنون: حلية السيف تبع للسيف، ولا شيء له في السوار والطوق والعين كلها خلافا لأهل العراق؛ لأنها ليست سلبا غالبا، ولفظه - عليه السلام - محمول على المعلوم غالبا، وله الترس والسرج واللجام والخاتم والرمح والسيف والبيضة والمنطقة بحليتها، والساعد والساق دون الصليب في العنق. وإذا قال الإمام: من أصاب ذهبا أو فضة فله الربع بعد الخمس أمضيناه، وإذا قال للسرية: ما غنمتم فلكم لم يمض، وإن كان فيه خلاف؛ لأنه شاذ، وإذا جعل أجرأ لبعض السرايا لصعوبة بعض المواضع فلا شيء لمن انتقل إلى غير سريته، إلا إن لم يعين الإمام، ولو ضل رجل عن سريته حتى رجعوا لم يكن له شيء بخلاف الغنيمة، ولو مات الوالي أو عزل قبل أخذهم النفل، وولى من يرى رأينا لم يكن لها شيء لعدم القبض لم ينتقضوا أمضاه ابن سحنون مطلقا.
|